فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والعرْض (بسكون الراء) ما سوى الدنانير والدراهم؛ فكل عرْضٍ عرَض، وليس كل عرَضٍ عرْضا.
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنِى غِنَى النفس». وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى فنظمه:
تقنّع بما يكفيك واستعمل الرضا ** فإنك لا تدري أتُصبح أم تُّمسي

فليس الغِنَى عن كثرة المال إنما ** يكون الغنى والفقر من قِبل النفسِ

وهذا يصحح قول أبي عبيدة: فإن المال يشمل كل ما يُتمول.
وفي كتاب العين: العرَض ما نيل من الدنيا؛ ومنه قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا} [الأنفال: 67] وجمعه عروض.
وفي المجمل لابن فارس: والعرض ما يعترض الإنسان من مرض أو نحوه وعرّض الدنيا ما كان فيها من مال قلّ أو كُثر.
والعرض من الأثاث ما كان غير نقد.
وأعرض الشيء إذا ظهر وأمكن.
والعرض خلاف الطول.
التاسعة قوله تعالى: {فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} عِدَة من الله تعالى بما يأتي به على وجهه ومن حِلّهِ دون ارتكاب محظور، أي فلا تتهافتوا.
{كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ} أي كذلك كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم خوفًا منكم على أنفسكم حتى منّ الله عليكم بإعزاز الدين وغلبة المشركين، فهم الآن كذلك كل واحد منهم في قومه متربص أن يصل إليكم، فلا يصلح إذ وصل إليكم أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره.
وقال ابن زيد: المعنى كذلك كنتم كفرة {فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} بأن أسلمتم فلا تنكروا أن يكون هو كذلك ثم يسلم لحينه حين لقِيكم فيجب أن تتثبتوا في أمره. اهـ. بتصرف يسير.
قوله تعالى: {فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ}

.قال الفخر:

{فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} وفيه احتمالان:
الأول: أن يكون هذا متعلقًا بقوله: {كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ} يعني إيمانكم كان مثل إيمانهم في أنه إنما عرف منه مجرد القول اللساني دون ما في القلب، أو في أنه كان في ابتداء الأمر حاصلًا بسبب ضعيف، ثم منَّ الله عليكم حيث قوي نور الإيمان في قلوبكم وأعانكم على العمل به والمحبة له.
والثاني: أن يكون هذا منقطعًا عن هذا الموضع، ويكون متعلقًا بما قبله، وذلك لأن القوم لما قتلوا من تكلم بلا إله إلا الله، ثم أنه تعالى نهاهم عن هذا الفعل وبين لهم أنه من العظائم قال بعد ذلك {فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} أي من عليكم بأن قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر.
ثم أعاد الأمر بالتبيّين فقال: {فَتَبَيَّنُواْ} وإعادة الأمر بالتبيين تدل على المبالغة في التحذير عن ذلك الفعل. اهـ.

.قال الألوسي:

وقوله سبحانه: {كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} تعليل للنهي عن المقيد باعتبار أن المراد منه ردّ إيمان الملقي لظنهم أن الإيمان العاصم ما ظهرت على صاحبه دلائل تواطئ الباطن والظاهر ولم تظهر فيه، واسم الإشارة إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فيه حيز الصلة، والفاء في {فَمَنْ} للعطف على {كُنتُمْ} وقدم خبرها للقصر المفيد لتأكيد المشابهة كأنه قيل: لا تردّوا إيمان من حياكم بتحية الإسلام وتقولوا إنه ليس بإيمان عاصم ولا يعد المتصف به مؤمنًا معصومًا لظنكم اشتراط التواطؤ في العصمة ومجرد التحية لا يدل عليه، فإنكم كنتم أنتم في مبادئ إسلامكم مثل هذا الملقي في عدم ظهور شيء للناس منكم غير ما ظهر منه لكم من التحية ونحوها، ولم يظهر منكم ما تظنونه شرطًا مما يدل على التواطؤ، ومجرد أن الدخول في الإسلام لم يكن تحت ظلال السيوف لا يدل على ذلك فمنّ الله تعالى عليكم بأن قبل ذلك منكم ولم يأمر بالفحص عن تواطؤ ألسنتكم وقلوبكم، وعصم بذلك دماءكم وأموالكم، فإذا كان الأمر كذلك {فَتَبَيَّنُواْ} هذا الأمر ولا تعجلوا وتدبروا ليظهر لكم أن ظاهر الحال كاف في الإيمان العاصم حيث كفى فيكم من قبل، وأخر هذا التعليل على ما قيل لما فيه من نوع تفصيل ربما يخلّ تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم مع ما فيه من مراعاة المقارنة بين التعليل السابق وبين ما علل به، أو لأن في تقديم الأول إشارة ما إلى ميل القوم نحو ذلك العرض، وأن سرورهم به أقوى، ففي تقديمه تعجيل لمسرتهم، وفيه نوع حط عليهم رفع الله تعالى قدرهم ورضي المولى عز شأنه عنهم أو لأنه أوضح في التعليل من التعليل الأخير وأسبق للذهن منه، ولعله لم يعطف أحد التعليلين على الآخر لئلا يتوهم أنهما تعليلا شيء واحد أو أن مجموعهما علة، وقيل: موافقة لما علل بهما من القيد والمقيد حيث لم يتمايزا بالعطف، وقيل: إنما لم يعطف لأن الأول تعليل للنهي الثاني بالوعد بأمر أخروي لأن المعنى لا تبتغوا عرض الحياة الدنيا لأن عنده سبحانه ثوابًا كثيرًا في الآخرة أعده لمن لم يبتغ ذلك، وعبر عن الثواب بالمغانم مناسبة للمقام، والتعليل الثاني للنهي الأول ليس كذلك، وذكر الزمخشري وغيره في الآية ما رده شيخ الإسلام بما يلوح عليه مخايل التحقيق، وقال بعض الناس فيها: إن المعنى كما كان هذا الذي قتلتموه مستخفيًا بدينه في قومه خوفًا على نفسه منهم كنتم أنتم مستخفين بدينكم حذرًا من قومكم على أنفسكم، فمنّ الله تعالى عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله حتى أظهرتم الإسلام بعدما كنتم تكتمونه من أهل الشرك فتبينوا نعمة الله تعالى عليكم، أو تبينوا أمر من تقتلونه، ولا يخفى أن هذا وإن كان بعضه مرويًا عن ابن جبير غير واف بالمقصود على أن القول بأن المخاطبين كانوا مستخفين بدينهم حذرًا من قومهم في حيز المنع اللهم إلا أن يقال: إن كون البعض كان مستخفيًا كاف في الخطاب، وقيل: إن قوله سبحانه: {فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} منقطع عما قبله، وذلك أنه تعالى لما نهى القوم عن قتل من ذكر أخبرهم بعد بأنه منّ عليهم بأن قبل توبتهم عن ذلك الفعل المنكر، ثم أعاد الأمر بالتبيين مبالغة في التحذير، أو أمر بتبيين نعمته سبحانه شكرًا لما منّ عليهم به وهو كما ترى. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {كذلك كنتم من قبل} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن معناه: كذلك كنتم تأمنون من قومكم المؤمنين بهذه الكلمة، فلا تُخيفوا من قالها، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: كذلك كنتم تُخفون إِيمانكم بمكة كما كان هذا يخفي إِيمانه، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثالث: كذلك كنتم من قبل مشركين، قاله مسروق، وقتادة، وابن زيد.
قوله تعالى: {فمن الله عليكم} في الذي مَنّ به أربعة أقوال:
أحدها: الهجرة، قاله ابن عباس.
والثاني: إِعلان الإِيمان، قاله سعيد بن جبير.
والثالث: الإِسلام، قاله قتادة، ومسروق.
والرابع: التوبة على الذي قتل ذلك الرجل، قاله السدي. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة {تبتغون} حالية، أي ناقشتموه في إيمانه خشيَة أن يكون قصَد إحراز ماله، فكان عدمُ تصديقه آئلًا إلى ابتغاء غنيمة ماله، فأوخذوا بالمآل.
فالمقصود من هذا القيد زيادة التوبيخ، مع العلم بأنّه لو قال لمن أظهر الإسلام: لستَ مؤمنًا، وقتَله غير آخذ منه مالًا لكان حكمه أوْلى ممّن قصَد أخذ الغنيمة، والقيد ينظر إلى سبب النزول، والحكمُ أعّم من ذلك.
وكذلك قوله: {فعند الله مغانم كثيرة} أي لم يحصر الله مغانمَكم في هذه الغَنيمة.
وزاد في التوبيخ قوله: {كذلك كنتم من قبل} أي كنتم كفّارًا فدخلتم الإسلام بكلمة الإسلام، فلو أنّ أحدًا أبى أن يصدّقكم في إسلامكم أكان يُرضيكم ذلك.
وهذه تربية عظيمة، وهي أن يستشعر الإنسان عند مؤاخذته غيره أحْوالًا كان هو عليها تساوي أحوال مَن يؤاخذه، كمؤاخذة المعلّم التلميذ بسوء إذا لم يقصّر في إعمال جهده.
وكذلك هي عظة لمن يمتحنون طلبة العلم فيعتادون التشديد عليهم وتطلّب عثراتهم، وكذلك ولاة الأمور وكبار الموظّفين في معاملة من لنظرهم من صغار الموظّفين، وكذلك الآباء مع أبنائهم إذا بلغت بهم الحماقة أن ينتهروهم على اللعب المعتاد أو على الضجر من الآلام.
وقد دلّت الآية على حكمة عظيمة في حفظ الجامعة الدينية، وهي بثّ الثقة والأمان بين أفراد الأمّة، وطرح ما من شأنه إدخال الشكّ لأنّه إذا فتح هذا الباب عسر سَدّه، وكما يتّهم المتّهمُ غيرَه فللغير أن يتّهم مَن اتّهمه، وبذلك ترتفع الثقة، ويسهل على ضعفاء الإيمان المروق، إذ قد أصبحت التهمة تُظلّ الصادق والمنافق، وانظر معاملة النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين معاملة المسلمين.
على أنّ هذا الدين سريع السريان في القلوب فيكتفي أهله بدخول الداخلين فيه من غير مناقشة، إذ لا يلبثون أن يألفوه، وتخالط بشاشتُه قلوبَهم، فهم يقتحمونه على شكّ وتردّد فيصير إيمانًا راسخًا، وممّا يعين على ذلك ثقة السابقين فيه باللاحقين بهم.
ومن أجل ذلك أعاد الله الأمرَ فقال: {فتبَيّنوا} تأكيدًا لـ (تبينّوا) المذكورِ قبْله، وذيَّله بقوله: {إنّ الله كان بما تعملون خبيرًا} وهو يجمع وعيدًا ووعدًا. اهـ.

.قال القرطبي:

استدل بهذه الآية من قال: إن الإيمان هو القول لقوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِنًا}.
قالوا: ولما مُنِع أن يقال لمن قال لا إله إلا الله لست مؤمنا منع من قتلهم بمجرد القول.
ولولا الإيمان الذي هو هذا القول لم يعب قولهم.
قلنا: إنما شك القوم في حالة أن يكون هذا القول منه تعوّذا فقتلوه.
والله لم يجعل لعباده غير الحكم بالظاهر؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» وليس في ذلك أن الإيمان هو الإقرار فقط؛ ألا ترى أن المنافقين كانوا يقولون هذا القول وليسوا بمؤمنين حسب ما تقدّم في البقرة وقد كشف البيان في هذا قوله عليه السلام: «أفلا شققت عن قلبه»؟ فثبت أن الإيمان هو الإقرار وغيره، وأن حقيقته التصديق بالقلب، ولكن ليس للعبد طريق إليه إلا ما سمع منه فقط.
واستدل بهذا أيضًا من قال: إن الزندِيق تقبل توبته إذا أظهر الإسلام؛ قال: لأن الله تعالى لم يفرّق بين الزنديق وغيره متى أظهر الإسلام.
وقد مضى القول في هذا في أوّل البقرة.
وفيها ردّ على القدرية، فإن الله تعالى أخبر أنه منّ على المؤمنين من بين جميع الخلق بأن خصهم بالتوفيق، والقدرية تقول: خلقهم كلهم للإيمان.
ولو كان كما زعموا لما كان لاختصاص المؤمنين بالمِنَّة من بين الخلق معنى. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}
المراد منه الوعيد والزجر عن الإظهار بخلاف الإضمار. اهـ.

.قال القرطبي:

{إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} تحذير عن مخالفة أمر الله؛ أي احفظوا أنفسكم وجنبوها الزلل الموبِق لكم. اهـ.

.قال النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)}